تحرير موضوع حول محور الفنون
إنجاز موضوع إنشائيّ حجاجيّ . الــــمـــــحـــور : الـــفــــنــــــون . المستوى : السّنة التّاسعة من التّعليم الأساسيّ
الموضوع : "قرّرت إدارة مدرستك تنشيط المؤسّسة خلال الثّلاثيّة الثّالثة ببعث نوادٍ فنيّة كالرّسم و الموسيقى و المسرح فرأى صديقك أنّ هذه الأنشطة ستضعف تركيز التّلاميذ و تصرفهم عن دروسهم و تسيء إلى سلوكهم غير أنّك لم توافقه الرّأي و عملت على أن توضّح له مزايا الفنون عامّة و أثرها الإيجابيّ في التّلميذ خاصّة."
اُنقل الحوار الّذي دار بينكما مبيّنا الحجج الّتي استند إليها كلّ منكما.
المقدّمة :
مدخل عامّ يتضمّن موقفين متعارضين يرتبطان بالوضعيّة الخلافيّة المطلوبة + الرّبط ( ومن بين هذه الفئة ) + التّأطير السّرديّ ( يتمّ فيه تضمين نصّ المعطى ) .
يتجنّب المترشّح إصدار الأحكام و إبداء الرّأي في المقدّمة من قبيل : "أرى/أعتبر / إنّ /لا بدّ من الإقرار بـ..."
جوهر الموضوع
ينفتح جوهر الموضوع بتأطير سرديّ مفصّل لما ورد مجملا في المقدّمة . هذا التّأطير يستثمر فيه المترشّح السّرد و الوصف والحوار الباطنيّ في تعيين الزّمان و المكان و العلاقة بين طرفيْ الحوار و الحدث القادح للحوار الحجاجيّ ثمّ الرّبط مع الإشارة السّرديّة الأولى لينطلق الحوار.
لا بدّ من اعتماد إشارة سرديّة تدعم الحوار و تمهّد له و تصوّر العلاقة بين طرفي الحوار و الحالة النّفسيّة لكلّ منهما و عدم الاقتصار على أفعال القول فقط بل المضيّ في استثمار الوصف و السّرد و الحوار الباطنيّ.
يمكن بناء الحوار الحجاجيّ طرادة بطرادة أو في مخاطبتيْن مطوّلتيْن ليتدخّل كلّ من المتحاوريْن مرّة واحدة.
توزيع الحوار إلى طرادة بطرادة يقتضي إحكام بنائه و ذلك بالحرص على أن ينطلق المتدخّل من الردّ على رأيه السّابق ثمّ يمرّ إلى عرض رأيه.
تتكوّن الفقرة الحجاجيّة وجوبا و في كلّ مخاطبة من (أطروحة + حجّة + مثال + استنتاج) مع استعمال العبارات الدالّة على الاستنتاج و تنويع الحجج و الأمثلة و ترتيبها ترتيبا يخدم الخطّة الحجاجيّة.
تبدأ الفقرة الحجاجيّة بتعليق على الرّأي السّابق للمخاطب و إبداء موقف منه و ذلك باستخدام الأعمال اللّغويّة المناسبة : التّحذير / الدّعاء / الإغراء / التّعجّب / المدح و الذمّ / النّداء / الأمر و النّهي / الالتماس و التّحضيض / الشّرط / الاستفهام ...
نلاحظ أنّ هذه الأعمال اللّغويّة تمثّل دروسا في علم النّحو ضمن برنامج اللّغة للسنّة التّاسعة من التّعليم الأساسيّ و يستحسن أن يتمّ إدماج مكتسبات التّلميذ من اللّغة في الإنتاج الكتابيّ.
يحرص المترشّح على استعمال عبارات و تراكيب تسهم في توضيح الأفكار كأسلوب التّصنيف و التّفصيل : فأمّا .. و أمّا ../ فمن جهة ... و من جهة أخرى ../ أوّلا .. و ثانيا ... و ثالثا ... / كذلك .. كما ..
الحرص على مقروئيّة الخطّ و وضوحه .
استخدام علامات التّنقيط المناسبة : (! / !؟ / .. / ؟ ...)
الفصل بين المقدّمة و الجوهر و الخاتمة فصلا شكليّا بترك سطر فارغ بينها.
العودة إلى السّطر بعد انتهاء كلّ فقرة .
ترك فراغ في بداية كلّ فقرة
جديدة .
لئن تعتبر الفنون من مقوّمات الوجود الإنسانيّ و من ضمن العناصر الملازمة لأشكال الإبداع الحضاريّ فإنّ البعض لا يدرك هذه الأبعاد السّامية الكامنة في الفنّ بل يعتبره أمرا ثانويّا و حدثا عرضيّا لا قيمة له في حياة الإنسان و من بين هذه الفئة صديقي الّذي اتّخذ موقفا سلبيّا من الفنون عندما قرّرت إدارة المدرسة تنشيط المؤسّسة خلال الثّلاثيّة الثّالثة ببعث نوادٍ فنيّة للرّسم و الموسيقى و المسرح فرأى أنّ هذه الأنشطة ستضعف تركيز التّلاميذ و تصرفهم عن دروسهم غير أنّني لم أوافقه الرّأي و عملت على أن أوضّح له مزايا الفنون عامّة و أثرها الإيجابيّ في التّلميذ خاصّة.
حدث ذلك عندما كنّا نتجوّل في ساحة المدرسة منهكين من المراجعة حينا و متابعة الدّروس أحيانا فترى التّلاميذ في حركة دائبة بين تحصيل معلومات إضافيّة أو إنجاز تمارين قد تضاعف حظوظهم في النّجاح و فجأة أثارت انتباهي معلّقات في المجلّة الحائطيّة قد اجتمع التّلاميذ حولها اجتماع الأطيار على الأشجار فأسرعت نحوها لأستطلع مضمونها و إذا هي إعلان يحمل ختم الإدارة و يعلن انطلاق نشاط مجموعة من النّوادي الفنيّة في مدرستنا فالتفتّ نحو صديقي لأستجلي موقفه و إذا به يفور فوران القدر على الموقد و يصرخ مزمجرا غاضبا :
-"ما أغرب هذا الإعلان ...! أفي مثل هذا الوقت يدعون التّلاميذ إلى النّشاط الفنيّ !؟ .. إنّ الفنون لا تفيد التّلميذ في شيء و الأجدر بنا أن ننفق وقتنا في أعمال نافعة كالمراجعة أو مطالعة الكتب فالعمل الجديّ أفضل من التّرفيه .. ألا تذكر حكاية الصرّار الّذي صرف كلّ وقته في الغناء و اللّهو و اللّعب خلال فصل الصّيف في حين كانت النّملة تعمل و تكدّ فأفلحت في توفير قوتها خلال الشّتاء و خاب سعي الصرّار .. !؟ و إنّني لا أرى في هذا النّشاط الفنيّ سوى عمل في غير وقته و جهد في غير مجاله فلا فائدة نجنيها من الفنّ .."
عندما صرّح صديقي بموقفه من الفنون و أفصح عن إدانته إيّاها لم أقل له أخطأت أو أصبت .. كلاّ .. و لم أحاسبه بما إذا كان رأيه رأيا جديدا أو إذا كان قد سبقه إليه الكثيرون بل أصغيت إلى كلّ ما قاله باحترام فأعرته انتباهي لأرى ما إذا كان يقنعني بصحّة ما يرتئيه و لا إقناع إلاّ بالحجّة . غير أنّي تعجّبت من موقف صديقي و عقّبت على كلامه قائلا بكلّ ثقة :
-"أي صديقي .. التّمعّن َ .. التّمعّن َ .. و لا تكتفي بالنّظر إلى سطح الأمور بل عليك بالنّفاذ إلى جوهرها لتفهم سرّها و تدرك حقائقها فنحن اليوم لا نحتاج إلى المراجعة فحسب بل إلى الفنون أيضا ذلك أنّ الإنسان كائن مركّب من عقل و روح و لذلك فهو لا يحتاج إلى مقوّمات المنطق و العقلانيّة فحسب بل يتوق إلى ما يكمن في الفنّ من طاقة تنمّي مواهبه و توسّع خياله فتكسبه مهارات و خبرات ترقى بإنتاجه الماديّ و نظره العقليّ و تمنحه القدرة على النّقد و الحكم و التّقييم فيصبح قادرا على التّمييز بين القبيح و الجميل و الضّارّ و النّافع فينعكس ذلك على أقواله و أفعاله و لذلك يقول الأديب "ألفريد دي فيني" : "الفنّ هو الطّريقة المثلى لاكتشاف الحقيقة " و كما يقول الأديب الفرنسيّ "فيكتور هيغو" : "الفنّ عصا سحريّة تقدّم للإنسان فهما جديدا للعالم" . و هكذا فإنّ الأنشطة الفنيّة لا تعوق التّلميذ عن التّعلّم و لا تقف حائلا بينه و بين عمله العقليّ بقدر ما تمثّل رافدا يدعم اجتهاده و يحفّزه نحو الأفضل للنّجاح و التّألّق."
تأمّلني دقائق معدودات ثمّ ضحك ضحكة لم أفهم مغزاها لكنّي أحسست أنّها تنمّ عن السّخرية أو أنّها وسيلة لإخفاء ملامح الشكّ الّتي سادت وجهه و اجتاحت عينيه ثمّ أردف بنبرة الواثق :
-"صَهْ .. صَهْ .. مهلا يا صديقي و لا تتسرّع في إصدار أحكامك جزافا دون عقل و لا رويّة فالفنون تتسبّب في انتشار ظواهر سلوكيّة سلبيّة من خلال سعي الشّباب إلى تقليد نجوم الفنّ في لباسهم و تصرّفهم دون وعي بخلفيّاتهم الفكريّة أو اختلاف البيئة الّتي تنتج ذلك الجنس من الفنون فيكون التّأثّر به دون فهم لغاته و لا الأفكار الثّاوية خلفه و الّتي قد توافق البيئة الغربيّة و لكنّها لا تنسجم مع الواقع العربيّ .. ألا ترى تأثّر شبابنا اليوم بالمجموعات الموسيقيّة الغربيّة الّتي تعيش حياة هامشيّة و تحرّض على الانتحار للوصول إلى عالم الخلود و يُعرف بعضهم بـ"ـعبدة الشّيطان" ..ألا تستنتج معي هذه الحقيقة الجليّة بأنّ الفنّ يناقض السّلوك القويم و يعصف به في هذه المواجهة الحضاريّة الّتي نعيشها اليوم .. !؟ فحتّام يجرفنا هذا التيّار و نحن غافلون .. !؟"
أيقنت حينئذ أنّ من الصّعوبة إقناعه بفساد موقفه و بخطأ تصوّره فحججه لا تخلو من وجاهة التّفكير و بلاغة التّعبير لكنّي صمّمت على المضيّ قدما في الدّرب الّذي تخيّرته بكلّ عزيمة و ثبات و إن ملأته الأشواك و شابته العثرات فأردفت قائلا:
-"إيّاك و الانسياق خلف الأحكام السّطحيّة المتسرّعة فالفنون أداة تواصل كونيّة لا تعرف الحدود و لا تخضع لحواجز تمنع الاستفادة منها إذ هي تخاطب النّفوس أكثر من توجّهها إلى العقول فالموسيقى مثلا لا تؤمن بالعراقيل و الحواجز اللّغويّة فأنت لا تفهم إنجليزيّا مثلا إذا كنت لا تحسن لغته لكنّك في المقابل تشعر بأفراحه و أتراحه و تتعاطف معه إذا عبّر عن هواجسه و انفعالاته باللّحن و الكلمة فالموسيقى كما يقول جبران خليل جبران "لغة ليست ككلّ اللّغات" و جملة القول أنّ الفنّ لغة كونيّة إنسانيّة لا تعترف بالحدود الجغرافيّة و الاختلاف بين اللّغات و الأجناس."
تغيّرت ملامح وجهه و اجتاحت عينيه نظرات غريبة تشي بما يجول في عقله من أفكار قد تجعل هذه العقليّة تندثر و تتوارى لكنّه فاجأني بقوله و قد أشرق وجهه و كأنّه تيقّن من إفحامي بحجّة دامغة:
-"رويدك يا صديقي و حذار من اعتبار بعض الأوهام حقائق مطلقة فإن صلحت الفنون في الحياة الإنسانيّة و الاجتماعيّة العامّة فهي لا تصلح في الإطار التّربويّ و المدرسيّ ذلك أنّ بعض الفنون تتطلّب وقتا و تفرّغا لإنجازها و الاهتمام بها و هذا سيكون على حساب المراجعة و الاهتمام بالدّروس و من جهة أخرى فإنّ أكثر أنواع الفنون تتطلّب تجهيزات و مرافق لا تتوفّر في مؤسّساتنا التّربويّة و يعدّ هذا عائقا أمام الاستفادة منها على أفضل الوجوه . فقد ظهرت فنون متطوّرة في عصرنا تعتمد التّيكنولوجيا الحديثة و وسائل العرض التّقنيّة المعقّدة كالسّينما و أجهزة الإضاءة و لوازم الدّيكور في المسرح و أدوات الرّسم المختلفة باختلاف أنواع الفنون التّشكيليّة و النّحت و مختلف الوسائل السّمعيّة و البصريّة و كلّ هذه المجالات الفنيّة لا تنسجم مع واقعنا التّربويّ."
ابتسم صديقي ابتسامة الواثق من هزيمتي ثمّ واصل و قد أشرق وجهه و كأنّه قد تيقّن من إفحامي بحجّة دامغة:
-"لو اطّلعت على البرامج التّعليميّة لأدركت أنّ بعض أنواع الفنون تمثّل فروعا من الموادّ الّتي يدرسها التّلميذ و يُختبر فيها و ممارسته إيّاها خارج أوقات الدّروس تنقلب مجرّد مراجعة بسيطة فتخرج هذه الفنون عن غاياتها التّرفيهيّة و الدّليل على ذلك أنّ المسرح و الفنّ التّشكيليّ و الموسيقى هي فنون تمثّل في نفس الوقت فروعا من الموادّ الّتي يخضع فيها التّلميذ للتّعلّم و الاختبار.."
أذهلني كلام صديقي و أيقنت أنّ إقناعه بخطأ تصوّره ليس بالأمر الهيّن فحججه لا تخلو من وجاهة و رؤيته تدلّ على رجاحة فكر و إن وجدته يغالي في التّحامل على ممارسة الفنّ في المدرسة حينئذ أدركت أنّ هذه الجولة هي الأخيرة من هذا الحوار فقلت و كلّي أمل في نصر قريب :
-"حذار يا صديقي فقد أسرفت في نعت الفنّ بالسّلبيّة و اعتباره متعارضا مع التّربية و التّعليم .. فهلاّ انتبهت إلى أنّ الفنّ يمكن أن يلعب دورا هامّا في تحقيق التّوازن النّفسيّ للتّلميذ فيخفّف عنه عبء الدّروس و إرهاق المراجعة فتلين نفسه و تستردّ هدوءها و سكينتها كما يقلّص ظاهرة العنف في الوسط المدرسيّ و في هذا السّياق يقول الرّسول صلّى الله عليه و سلّم : "روّحوا عن النّفس ساعة بعد ساعة فإنّ النّفوس تصدأ كما يصدأ الحديد"و يقول : "روّحوا عن النّفس ساعة بعد ساعة فإنّ النّفس إذا كلّت عميت" ليثبت بذلك ما تلعبه الفنون من دور ترفيهيّ بالغ الأهميّة إذ غالبا ما يلجأ إليها الإنسان في أوقات الفراغ و خلال لحظات الضّيق فتخفّف عنه وطأة الإحساس بالضّجر و الملل و تحلّق به في عالمها السّحريّ ليشعر بنوع من الرّاحة و الطّمأنينة و قد أكّد بعض المختصّين في مجال علم النّفس قدرة الموسيقى على معالجة بعض الأمراض النّفسيّة المستعصية حيث يشعر المريض بارتياح نفسيّ ينعكس على جسمه من خلال إفرازات جهاز الغدد في الجسد فيحدث الارتياح و الاسترخاء و إذا كان هذا أمر الفنون في علاج المرضى فمن الأجدر أن تستخدم في المجال التّربويّ و من هنا نخلص إلى أنّ الفنّ سبيل إلى تحقيق توازن التّلميذ نفسيّا و الارتقاء بذوقه فتتحسّن نتائجه و ظروف تعلّمه."
ما أن أنهيت كلامي حتّى صمت صديقي لحظة و قد بدا عليه الوعي بوهن موقفه و ظهرت على محيّاه علامات التّفكير لكنّه حاول الانتصار لكبريائه قائلا:
-"أَي صديقي .. الموضوعيّة َ .. الموضوعيّة َ في حكمك .. ألا ترى في إنفاق وقت التّلميذ في الأنشطة الفنيّة إهدارا لطاقته الذّهنيّة و البدنيّة على حساب اهتمامه بالمراجعة إضافة إلى ما في ذلك من حرمانه من الاستمتاع بأوقات الفراغ ..!؟ فبعض الفنون يتطلّب إنجازها وقتا طويلا مثل المسرح و السّينما لإعداد العمل الفنيّ و تقديمه للمتفرّجين كما أنّ الفنون كماليّة غير أساسيّة و لا جوهريّة في تكوين التّلميذ بل قد تسيء إلى سلوكه و تتعارض مع قيمه و تربيته.."
لبثت أفكّر في قوله فبدا لي أنّه منطق معكوس لا يدلّ على فكر متماسك و موقف صلب بقدر ما يشير إلى تهاوي حججه و انهيار أحكامه فابتسمت ابتسامة ودّ لا سخرية ثمّ وضعت يدي على كتفه و قلت و نحن نمشي الهويْنَى في طريقنا إلى قاعة الدّرس:
-"مهلا صديقي .. و إليك موقفي .. لم يكن الفنّ يوما مسيئا لسلوك الإنسان بل هو ينشئه على القيم النّبيلة و المبادئ السّامية فيرتقي به إلى أعلى المراتب الإنسانيّة و يسمو به عن كلّ دنس و هذا ما يدعم تربية التّلميذ و يثبّت حسن سلوكه ألم يقل الفيلسوف الألمانيّ "نيتشه" في كتابه "إنسانيّ مفرط في إنسانيّته" : " إنّ مهمّة الفنّ الأولى هي تجميل الحياة و هي جعلنا نطيق بعضنا البعض و جعلنا نتّصف باللّطف مع الآخرين .. إنّه يهدّئنا و هذه المهمّة نصب عينيه يمسك بزمامنا فيخلق أشكالا من الكياسة ليربط أشخاصا غير مهذّبين بقوانين اللّياقة و النّظافة و اللّطف و يعلّمهم أن يتكلّموا و يصمتوا في اللّحظة المناسبة " و لا تقف آثار الفنون الإيجابيّة في مستوى الفرد و إنّما تتعدّاه إلى علاقته بالمجموعة فتمتّن علاقته بمحيطه و تشبّعه بقيم الجمال و تربّيه على احترام مواطنه و مصادره و تعلّمه كيف يحافظ عليها و بإصلاح الفرد نصلح المجتمع فإنّ رقيّ الإنسان ذوقا و أخلاقا سيفضي ضرورة إلى رقيّ المجموعة في مختلف هذه الجوانب و للاستدلال على صحّة ما ذكرت يكفي أن نعود إلى الواقع لنلمس آثار الفنّ و الجمال في المجتمع من خلال هندام النّاس و في الأماكن العموميّة كالحدائق و المحلاّت و في جمال المحيط المرتبط بنظافته و قد أكّد ذلك الرّسول صلّى الله عليه و سلّم عندما قال :"الإسلام بضع و سبعون شعبة أوّلها الشّهادتان و آخرها إماطة الأذى عن الطّريق" . كما يمكن أن أحيلك على ما ورد في نصّ شرحناه في دروس العربيّة بعنوان "لولا الجمال" إذ يقول الكاتب المصريّ أحمد أمين في كتابه "فيض الخاطر" : "لولا الجمال و الشّعور به لبقيت الكهوف و المغارات مساكن الإنسان الآن كما كانت مساكن الإنسان الأوّل و لولا الجمال ما كانت الحدائق و البساتين و لولا الجمال لاختفى كلّ فنّ فلا أدب و لا تصوير و لا نقش و لا موسيقى بل و ما كان الإنسان إلاّ آلة حقيرة يعمل و ينتج و يستهلك . و إنّ تقدّم الإنسانيّة في المدنيّة و الحضارة و الدّين و العلم و الاختراع و الخلق يدين للشّعور بالجمال أكثر من أيّ شيء آخر .." و خلاصة القول و صفوته أنّ أهميّة الفنّ تكمن في أبعاده الاجتماعيّة و تقوم في وظيفته التّوعويّة و التّربويّة فهو يثير القضايا الجوهريّة في الواقع و يبصّر بأهميّة الجمال الثّاوية فيه."
نظرت إلى صديقي نظرة أردت من خلالها أن أستجلي أثر كلامي في موقفه و أن أستكشف صدى حججي في فكره فلمست فيه علامات ارتباك بعد أن أيقن من قصور نظرته فحملق فيّ و تمتم بكلمات غير مسموعة و لكنّي سبقته و واصلت متيقّنا من قرب اقتناعه فقلت بكلّ ثقة :
-"لله درّك يا صديقا ينكر الحقيقة و هي ماثلة أمامه كالشّمس في كبد السّماء فمن الخطأ أن تعدّ الفنّ من كماليّات الحياة فإنّه من ضروريّاتها و من السّذاجة أن نعدّه متعة من متع ساعات الكسل و الفراغ فإنّه لا بدّ أن يملأ حياتنا و من قصر النّظر أن نقصره على أنواع من الزّينة و على ضروب من الأشكال و على أنماط من المظاهر فهو أعمق من أن يُكتفَى فيه بالسّطح و ما الدّنيا إذا هي فقدت الجمال و فقدنا شعورنا بالجمال ..!؟ إنّها إذن لا تستحقّ الحياة فيها ساعة لولا الفنون فانظر في الواقع إلى الأهرام الفرعونيّة و الحنايا و القصور و المسارح الرّومانيّة تجدْ إنشاءها نابعا عن تصوّر فنيّ و إحساس جماليّ بالواقع شأنها شأن اللّوحات الفسيفسائيّة الّتي تضمّ تونس المخزون العالميّ الأوّل منها و على هذا النّحو نخلص إلى نتيجة أكّدها الفيلسوف الفرنسيّ "ألان" و مفادها أنّ الفنّ لم يكن يوما مجرّد زينة أو حلية أو مجرّد لهو و لعب بل هو نشاط إبداعيّ يعبّر عن قدرة الرّوح البشريّة على تسجيل نفسها في صميم العالم الخارجيّ . و من خلال كلّ ما سبق تتّضح منزلة الفنّ في حياتنا فهو أساس جوهريّ و ليس عنصرا كماليّا .. أفبعد هذا يا صديقي تنكر حضور الفنّ في المدرسة و تدعو إلى تقليص حضوره ..!؟"
الخاتمة : نتجنّب في الخاتمة التّصريح بعبارة (اقتنع) بل نستثمر أنماط الكتابة من سرد و وصف و حوار باطنيّ لتصوير مآل الحوار الحجاجيّ (تراجع المخاطب عن رأيه / إصرار المخاطب على رأيه / مراجعة المتكلّم لبعض آرائه و دخوله في مرحلة تفكير يخرج منها بحقائق جديدة.)
يستحسن إنهاء الخاتمة بتعليق عامّ أو استنتاج نظريّ يؤكّد مآل الحوار الحجاجيّ.
لم يقل صديقي شيئا بعد ما سمعه منّي في ذلك اليوم بل طأطأ رأسه و لم ينبس ببنت شفة ثمّ انصرف إلى قاعة الدّرس و في نهاية الأسبوع الموالي قصدت المدرسة كعادتي مساء يوم السّبت لمتابعة أنشطة نادي الموسيقى و في لحظة وقوفي أمام باب القاعة سمعت عزفا على آلة الكمان بخفّة و لباقة متناهيتيْن فدخلت القاعة و إذا هو صديقي قد تحلّق حوله التّلاميذ و قد خَفَتَ كلّ صوت و ماتت كلّ حركة و مضى في عزفه و الرّفاق كأنّهم في حضرة ساحر عظيم فانضممت إليهم مستبشرا بما آل إليه حاله و كنت أقول في سرّي : "إنّ الفنّ جوهر الوجود البشريّ لا ينكره إنسان بل هو ما يمنحه معاني إنسانيّته و شكل وجوده الحقيقيّ في العالم."
شكرا لصاحب العمل
Commentaires
Aucun commentaire pour le moment.